يا ليت قومي يعلمون

 

يا ليت قومي يعلمون

          " رسالة موجزة في شأن الديمقراطية والمشاركة في المجالس النيابية"                                       
 بقلم  :  خالد بن صالح الغيص                                                          

     لقد كتبت عدة مقالات تتكلم عن ضرورة رفض المشاركة في الانتخابات ،  ورفض تنظيم حياة المسلمين على أساس فكرة الديمقراطية والمجالس النيابية ، لأنه- نحن كمسلمين- لدينا دين وشريعة أنزلها ربنا تعالى لتنظيم حياة المسلمين ولسنا بحاجة الى شريعة سواها .

ولكن للأسف أُسيء فهم تلك المقالات ولم تصل الرسالة للقارئ كما أريد ، مع أن العبارات كانت سهلة وواضحة - في ظني - ولكن هناك من شرّق وغرّب ودار حول الموضوع ولم يفهم ما أريد ، لذا رأيت اعادة  تلخيص تلك المقالات في هذه الرسالة الموجزة بحيث تكون أكثر وضوحا واستدلالا وأضع النقاط على الحروف ، معذرة إلى الله ولعل قومي يتقون ويعلمون خطأ المشاركة في الانتخابات والمجالس النيابية وخطأ تطبيق الديمقراطية في حياة المسلمين .

وسأتناول في رسالتي هذه مسألتين أساسيتين أرجو من القارئ أن يميز بينهما وأن لا يخلط بينهما وأن لا يتسرع في الحكم قبل التأمل في مدلولهما ، وأن ينتقل من المقدّمات والمسلّمات حتى يصل بعون الله إلى النتيجة المطلوبة وإذا كان هناك نقاش فليكن أولا في المقدّمات والمسلّمات المتفق عليها حتى تسقط النتيجة تلقائيا عند تفنيد المقدّمات والمسلّمات ، لا أن أرفض النتيجة بحجج بعيدة عن الموضوع ، فمن باب إحسان الظن بالآخرين فإن كل مسلم يرجو الله والدار الآخرة يبحث عن الحقيقة ،                           
         
                         :-وحتى يكون نقاشنا منطقيا ومؤسسا على حقائق نتفق عليها نحن كمسلمين                 فالمسألتان هما


-    المسألة الأولى : هي أن الديمقراطية والمشاركة في الانتخابات والمجالس النيابية هي فكرة غربية وُلدت من عقول رجال كفروا بالله العظيم وكفروا بنبوة نبينا محمد – صلى الله عليه وسلم – ولا يدينون بشريعة رب العالمين .

-    المسألة الثانية هي :  بعد رفض الديمقراطية وأنها ليست من الدين هل يجوز المشاركة في الانتخابات والمجالس النيابية من باب المصلحة ، ومن باب دفع أعظم المفسدتين بتحمل أدناهما ، أو بمعنى آخر هل مصلحة المشاركة تفوق المفسدة أم العكس ؟

فأرجو من القارئ أن لا ينتقل إلى المسألة الثانية إلا بعد المناقشة والاتفاق في المسألة الأولى ، حتى يكون النقاش موضوعيا .

 

                                       

                   البحث الأول  :      المسألة الأولى   :-

 

     وهي أن الديمقراطية والمشاركة في الانتخابات والمجالس النيابية هي فكرة غربية وُلدت من عقول رجال كفروا بالله العظيم وبنبوة رسولنا الكريم ولا يدينون بشريعة رب العالمين ، وخرجت من أفكار أناس سئموا التسلط الكنسي والقيصري واستعاضوا بدلا منه الالحاد والعلمانية ونادوا بقدسية حرية الإنسان بدلا من قدسية الأديان ، وأحيوا فكرة الديمقراطية اليونانية القديمة وطوروها حتى وصلت إلى ما نراه ونسمع عنه في يومنا هذا من نظام الديمقراطية الذي يؤمنون به ويسعون إلى نشره والدعوة إليه ولو بالقوة العسكرية ، أي كما أن المسلمين يجاهدون في سبيل الله فإن الغرب يجاهد في سبيل الديمقراطية "الطاغوت الجديد".

والديمقراطية مفهومها باختصار : حكم الشعب للشعب وهذا المفهوم مضاد لديننا وشريعة ربنا والذي يجعل الدين والدنيا كلها لله كما قال تعالى :  قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (162) لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ (163)سورة الانعام .

هذه هي حقيقة الديمقراطية والمجالس النيابية التي يطالبوننا بالمشاركة فيها التي لا التقاء بينها وبين شريعة ربنا تعالى ، فكيف يكون هناك لقاء بين فكرة أصلها اجتهاد بشري يخطئ ويصيب ، وخطؤه هو الغالب ، وبين تشريع رب العالمين ، قال تعالى : أَلَايَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (14) سورة القلم .

ولقد أعلن إبليس – عليه لعنة الله – العداوة لآدم وذريته من بعده وأعلن الحرب عليهم وأقسم بعزة ربنا ليصدن الناس عن دين الله وشريعته وليغوينهم أجمعين إلا عباد الله المخلصين كما جاء في الآيات ، ورد الله تعالى عليه فقال : قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى (123) وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى (124) قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا (125) قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آَيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى (126) وَكَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآَيَاتِ رَبِّهِ وَلَعَذَابُ الْآَخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى (127) سورة طه  .

 فالقضية إذن إما اتباع لهدى شريعة الرحمن أو اتباع لشرائع الشيطان المختلفة ، فعلى من يطرح موضوع الديمقراطية والمشاركة في المجالس النيابية على العامة أن يطرحها بحقيقتها التي نعرفها نحن كمسلمين وأن يجليها من منظور أصول وقواعد الدين ، حتى لا يزين الباطل من حيث لا يشعر .

     ولقد أرسل الله الرسل وأنزل الكتب ليدعوا الناس إلى دين ربهم والكفر والإعراض عما سواه ولن يصلح حال الناس إلا بذلك ، فنبينا محمد – صلى الله عليه وسلم – بعث إلى العرب وكانوا في زمانه لا يؤمنون بالله ولا بدينه وينتشر فيهم الفساد بجميع صوره ، ومع هذا عندما دخل منهم في دين الله من دخل وآمن بالله وحده وكفر بما يعبد من دون الله وأسلم وانقاد لله  تعالى تغير حال الناس وانتشر دين الله في جزيرة العرب في سنوات قليلة ، ولو كان الشأن أن النبي – صلى الله عليه وسلم – داهن الناس – وحاشاه – صلى الله عليه وسلم ووافقهم على ما هم عليه حتى يقبلوا دينه لما تغير الحال قال تعالى :" وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ (9) القلم ، فدين الله جاء ليغير حال الناس إلى ما يريده الله منهم لا أن يوافق ما عليه الناس  كما جاء في حديث هرقل عند البخاري عندما سأل أبا سفيان عن النبي عليه السلام  :قَالَ مَاذَا يَأْمُرُكُمْ قُلْتُ يَقُولُ اعْبُدُوا اللَّهَ وَحْدَهُ ، وَلاَ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا ، وَاتْرُكُوا مَا يَقُولُ آبَاؤُكُمْ ، وَيَأْمُرُنَا بِالصَّلاَةِ وَالصِّدْقِ وَالْعَفَافِ وَالصِّلَةِ .اهـ .   ولنكن صادقين مع انفسنا ، كم من واقع سيء عاشته الأمة خلال تاريخها الطويل لم يتغير إلى ما يحبه الله ويرضاه إلا بعد ثبات العلماء الربانيين ومن معهم على دينهم ، وما نصر الله الأمة في كل ما أصابها من طامات في تاريخها الطويل إلا بعد ثبات طائفة منهم على دينها .

وهذه سنة الله في خلقه – في الأوليين والأخرين – ولن تجد لسنة الله تبديلا ولن تجد لسنة الله تحويلا ، قال تعالى : فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آَمَنُوا مَعَهُ قَالُوا لَا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو اللَّهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ (249) وَلَمَّا بَرَزُوا لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالُوا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (250) سورة البقرة ، فمن ظن أنه باستطاعته أن ينصر دين الله وأن يعيد الناس إلى دينهم من خلال سلوك طريق الديمقراطية والمشاركة في المجالس النيابية ثم يغير واقع الناس شيئا فشيئا من خلال أسلمة القوانين – كما يصفونها –  فقد أخطأ ، فهل يظن بفعله هذا أن شياطين الإنس والجن سيتركونه يفكر ويقدر كما يشاء حتى يقلب عليهم الطاولة ، كلا ، سينقلبون عليه قبل أن ينقلب عليهم ، إن لم يكن بقوة داخلية منهم كما حدث في بعض بلدان المسلمين ، فمن قوة خارجية كما حدث في البعض الآخر ، فالديمقراطية والمجالس النيابية في حقيقتها في أغلب الدول العربية والإسلامية لعبة يلهون بها الشعوب المغلوب على أمرها حتى يتبجحون في المحافل الدولية أن عندنا ديمقراطية ومجالس نيابية فإذا شعروا بالخطر منها قلبوا الدنيا بمن فيها ، فلا نكون نحن المسلمين عونا لهم – ونحن لا نشعر – في إلهاء الشعوب وفي تثبيت أركان ملكهم حتى إذا تحقق لهم ما يريدون منا تركونا .

 

       ولنكن صادقين مع أنفسنا – مرة أخرى – كم مضى على الاسلاميين وهم يشاركون في الديمقراطية والمجالس النيابية ؟ عقود طويلة ( نحن في الكويت كانت أول مشاركة منذ عام 1401 هـ ) ، فهل تغير الحال إلى واقع يحبه الله ويرضاه ؟ هل تهيأت الأجواء لتطبيق الشريعة الاسلامية ؟ أم أن الجماعات الإسلامية غرقت في واقع الناس ، فقد كانت الجماعات الإسلامية ترفع شعار " القرآن دستورنا " والآن أصبح البعض منها يعرف بـ " الحركة الدستورية " أي شعارهم حماية الدستور بحجة أنه مكسب شعبي يجب المحافظة عليه حتى نحقق مراد الله ؟! وكان شباب الدعوة الاسلامية ينادون بتطبيق الشريعة ، واليوم الذي يحمي ويعزز المؤسسات القانونية التي تحكم بغير ما أنزل الله كوزارات عدل كما يسمونها ، وغيرها في بعض الدول الاسلامية – كمدراء كبار ووكلاء وزارة – هم شباب الدعوة الاسلامية بعد أن درسوا القانون الوضعي – الذي يكفرون به – والتحقوا  بكليات الحقوق بحجة التغلغل في تلك المؤسسات حتى يتم التغيير شيئا فشيئا ، فمع مرور الزمن إذا بهم يصطدمون بالواقع ويتركون أو ينسون الهدف الذي من أجله سلكوا هذا السبيل – إلا من رحمه الله – وبدؤوا ينافسون الناس في نيل المناصب الإدارية العالية في وزارات العدل – كما يسمونها – التي تحكم بغير ما أنزل الله ، وأصبح الآن بعض شباب الدعوة الاسلامية والدعاة هم بعض المستشارين القانونيين والإداريين الكبار في المجالس النيابية في بعض الدول الإسلامية ، من غير انتخاب بل هم سعوا لنيل هذه المناصب بحجة نصر دين الله فإذا بهم يعززون وينصرون القانون الوضعي – الذي كفروا به – من حيث لا يشعرون .

وكان أهل الدعوة الاسلامية من مشايخ وطلبة علم قبل المشاركة في لعبة الديمقراطية والمجالس النيابية لهم أكبر التقدير والاحترام في قلوب الناس وكان لهم تأثير لدى أصحاب القرار في بعض الدول الاسلامية والآن بعد سنوات طويلة من المشاركة إذا بهم يسقطون من أعين الناس – إلا من رحم الله – وأصبح بعض أصحاب القرار في بعض الدول الاسلامية ينظر إليهم نظرة الشك والريبة ولا يأخذ بمشورتهم ولا برأيهم – بالعموم – لأنه يعتبرهم نداً له على السلطة والملك ، وخسر بذلك أهل الدعوة الاسلامية     .

     ناهيك عن واقع الناس الذين ازدادوا بعداً عن دين الله وشرعه والواقع يشهد على ذلك ولا يجادل في ذلك إلا جاهل ، هذه هي الديمقراطية والمشاركة في المجالس النيابية التي يريدون منا أن نشاركهم فيها ، فإذا كان الله تعالى نهانا أن نتبع أهواء اليهود والنصارى وهم متمسكون بدينهم المحرّف فهل نتبعهم وهم قد كفروا به قال تعالى : ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ (18) إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ (19) هَذَا بَصَائِرُ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (20)  سورة الجاثية ، فلابد  من تدارك الأمر والرجوع عن أخطاء الماضي ، والاعتراف بالخطأ خير من التمادي فيه ، فلن يتغير واقعنا وواقع الناس إلى ما يحبه الله ويرضاه إلا بسلوك سبيل النبي – صلى الله عليه وسلم – في الدعوة والاصلاح ، كما قال تعالى : إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلَا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ (11)  سورة الرعد ، ولن يصلح حال  آخر الأمة إلا بما صلح به أولها ، وأن أي سبيل غير سبيل النبي صلى الله عليه وسلم هو في حقيقته شر وان ظهر للبعض أن فيه خير ، فما فيه من خير مغمور بما فيه من شر ،  ولشيخ الاسلام ابن تيمية كلام فريد في موضوع تغيير حال الناس عند كلامه على مسألة من قصد منع جماعة يجتمعون  على قصد الكبائر من قتل وقطع طريق وغير ذلك ثم إن شيخاً من المشائخ المعروفين بالخير واتباع السنة قصد منع المذكورين من ذلك فلم يمكنه إلا أن يقيم لهم سماعا يجتمعون فيه بهذه النية ، وهو دف بلا صلاصل ، وغناء المغني بشعر مباح بغير شبابة ، فلما فعل هذا تاب منهم جماعة وأصبح من لا يصلي ويسرق ولا يزكي يتورع عن الشبهات ،فهل يباح فعل هذا السماع لهذا الشيخ على هذا الوجه ، ولما يترتب عليه من مصالح مع أنه لا يمكن دعوتهم إلا بهذا ؟؟ .

أجاب رحمه الله : بعد ذكره مقدمة في أهمية التمسك بالكتاب والسنة :

إذا عرف هذا فمعلوم أن ما يهدي الله به الضالين ويرشد به الغاوين ويتوب به على العاصين، لابد أن يكون فيما بعث الله به رسوله من الكتاب والسنة، وإلا فإنه لو كان ما بعث الله به الرسول صلى الله عليه وسلم لا يكفي في ذلك، لكان دين الرسول ناقصًا، محتاجًا تتمة‏.‏ وينبغي أن يعلم أن الأعمال الصالحة أمر الله بها أمر إيجاب أو استحباب، والأعمال الفاسدة نهى الله عنها‏.‏ ......

وهكذا ما يراه الناس من الأعمال مقربًا إلى الله، ولم يشرعه الله ورسوله، فإنه لابد أن يكون ضرره أعظم من نفعه، و إلا فلو كان نفعه أعظم غالبًا على ضرره لم يهمله الشارع، فإنه صلى الله عليه وسلم حكيم، لا يهمل مصالح الدين، ولا يفوت المؤمنين ما يقربهم إلى رب العالمين‏.‏

إذا تبين هذا فنقول للسائل‏:‏ إن الشيخ المذكور قصد أن يتوب المجتمعون على الكبائر‏ ،‏ فلم يمكنه ذلك إلا بما ذكره من الطريق البدعي، يدل أن الشيخ جاهل بالطرق الشرعية التي بها تتوب العصاة، أو عاجز عنها، فإن الرسول صلى الله عليه وسلم والصحابة والتابعين كانوا يدعون من هو شر من هؤلاء من أهل الكفر والفسوق والعصيان بالطرق الشرعية، التي أغناهم الله بها عن الطرق البدعية‏.‏ انتهى من الفتاوى (  11-623) بتصرف .

   متى يرجع المصلحون من هذه الأمة ممن شارك في المجالس النيابية إلى رشدهم ؟ هل يحتاج الأمر إلى سنوات ؟ كما حدث في السابق عندما تبنى بعض أبناء المسلمين المذهب الاشتراكي الشيوعي وبدؤوا ينادون به وان الاشتراكية من الدين ، وبدؤوا يأخذون من نصوص الكتاب والسنة ما يؤيدون به  فكرتهم كحديث النبي صلى الله عليه وسلم« الْمُسْلِمُونَ شُرَكَاءُ فِى ثَلاَثٍ فِى الْكَلإِ وَالْمَاءِ وَالنَّارِ » رواه ابوداود وصححه الالباني، فقالوا الاشتراكية من الدين ،  وهكذا سنوات وسنوات حتى اكتشف الناس أن الشيوعية والاشتراكية خدعة شيطانية رفضها أصحابها ورفضها بعدهم من شاركهم بها من أبناء هذه الأمة ، فهل يحتاج الأمر بان نسير بنفس التجربة فننادي بالديمقراطية والمجالس النيابية ونبحث في نصوص الكتاب والسنة ما نؤيد به فكرتنا حتى نكتشف بعد حين أن الديمقراطية والمجالس النيابية خدعة غربية أرادوا بها صد المسلمين عن الالتزام بدينهم ، وكم نحتاج إلى ذلك من وقت ؟ ، وأخشى أن توصف بعض الجماعات الاسلامية التي سلكت سبيل الديمقراطية والمجالس النيابية بأن فيها دخن لأنهم يهدون بغير هدي النبي صلى الله عليه وسلمكما جاء في حديث حذيفة رضي الله عنه :" فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّا كُنَّا فِى جَاهِلِيَّةٍ وَشَرٍّ ، فَجَاءَنَا اللَّهُ بِهَذَا الْخَيْرِ ، فَهَلْ بَعْدَ هَذَا الْخَيْرِ مِنْ شَرٍّ قَالَ « نَعَمْ » . قُلْتُ وَهَلْ بَعْدَ ذَلِكَ الشَّرِّ مِنْ خَيْرٍ قَالَ « نَعَمْ ، وَفِيهِ دَخَنٌ » . قُلْتُ وَمَا دَخَنُهُ قَالَ « قَوْمٌ يَهْدُونَ بِغَيْرِ هَدْيِى تَعْرِفُ مِنْهُمْ وَتُنْكِرُ » .رواه البخاري ، فلنتدبر هذا الحديث جيداً   .

     وبعد هذا العرض لحال الديمقراطية والمشاركة في المجالس النيابية وما يؤول إليه حال الناس عند سلوك هذا السبيل للإصلاح والتغيير أظنك أيها القارئ توافقني الرأي بخطأ من سلك هذا السبيل ، ولكن قد يقول قائل أنا سلكت هذا السبيل وشاركت في الديمقراطية والمجالس النيابية من باب دفع أعظم المفسدتين بتحمل أدناهما ، فأقول هذه هي المسألة التي سأتطرق لها في البحث الثاني من رسالتي هذه ، وهذا أوان البحث فيها ولكن قبل ذلك أذكر :-

     بخطأ من سلك طريق الديمقراطية والمشاركة في المجالس النيابية لتغير حال الناس، وأنها ليست مقصدا ولا وسيلة شريفة يبيحها ديننا ويجعلها من المباحات التي من شاء شارك فيها ومن شاء تركها كما يدعيه البعض وجعلها في مصاف العلم الديني الذي لا يضره انحراف من تعلمه . ولا حول ولا قوة إلا بالله .

 

                             البحث الثاني :

         المسألة الثانية وهي :

       بعد رفض الديمقراطية ، هل يجوز المشاركة في الانتخابات والمجالس النيابية من باب دفع أعظم المفسدتين بتحمل أدناهما ، أو بمعنى آخر هل مصلحة المشاركة تفوق المفسدة ؟ أم العكس ؟

أعتقد أننا كمسلمين عندما نتكلم عن المصلحة فنقصد بها المصلحة الشرعية التي اعتبرتها الشريعة الإسلامية وألغت ما سواها .

وهذه المصلحة الشرعية قد ضُبطت قواعدها وأصولها كما فهم ذلك علماؤنا من كتاب ربنا تعالى وسنة نبينا صلى الله عليه وسلم وهدي سلفنا الصالح ، فليست المصلحة الشرعية متروكة لعقولنا وأهوائنا نتحكم بها بما نراه ، فقد تقتضي المصلحة الشرعية إزهاق النفوس كما في الجهاد في سبيل الله وهذا على خلاف ما يهواه البشر .

لذا كان لزاما علينا أن نتقيد بضوابط الشرع وقواعده في تحديد المصالح والمفاسد ، وهذا مجاله كتب أصول الفقه وغيرها لمن أراد الاستفادة .

ولكن حتى أقرب الصورة للفهم سأضرب مثلاً بحادثة وقعت للنبي صلى الله عليه وسلم وهو في مكة وكانت سبباً لنزول سورة عبس وتولى ، يقول الشيخ الدكتور ابراهيم صالح الدحيم رحمه الله نقلاً من مجلة البيان عدد 256 يقول :

كان النبي – صلى الله عليه وسلم – مشغولا بدعوة رجل من كبراء قريش ، فجاءه عبدالله بن أم مكتوم الأعمى – رضي الله عنه – فجعل يقول : يا رسول الله ! علمني مما علمك الله ! فأعرض عنه – صلى الله عليه وسلم – وأقبل على ذلك السيد الكافر رجاء إسلامه ، فنزل العتاب الرباني الشديد من فوق سبع سماوات : عَبَسَ وَتَوَلَّى (1) أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى (2) وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى (3) أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى (4) أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى (5) فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى (6) وَمَا عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى (7) وَأَمَّا مَنْ جَاءَكَ يَسْعَى (8) وَهُوَ يَخْشَى (9) فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى (10) كَلَّا إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ (11) سورة عبس .

سبحان الله ! ماذا فعل الرسول الكريم – صلى الله عليه وسلم - ؟ لقد رام مصلحة كبيرة للإسلام والمسلمين وقدمها على مصلحة صغرى ، لقد حرص على هداية ذلك العظيم من عظماء قريش لأن في هدايته نفعا عظيما للمسلمين وتقوية لهم ودفعا للأذى عنهم في زمن اشتدت فيه كربتهم وضاقت حيلتهم .

وأما هذا الرجل الأعمى الضعيف فلا يضيره ولا يضر الإسلام قليلا حتى يتفرغ النبي – صلى الله عليه وسلم – لتعليمه فهو رجل مسلم مؤمن ولا ضرر في الإعراض عنه لذلك الهدف النبيل ... هكذا يبدو للناظر ، ولكن ليس الأمر كذلك في ميزان السماء .

إن الحرص على هداية الناس ولا سيما الأكابر ومن يرجى بإسلامه أو هدايته نفع كبير للإسلام والمسلمين من أعظم واجبات الدين ومهماته وتقديم المصالح الكبرى العامة على المصالح الصغرى الخاصة أمر جاءت الشريعة بتقريره وتأكيده ولكن يشترط ألا يترتب على ذلك الإخلال بفريضة من فرائض الدين أو انتهاك شيء من حدوده فإن الشريعة كلها مبنية على تحقيق المصالح ودرء المفاسد .

ما أحوجنا إلى تدبر هذه الآيات الكريمة في مقدمة سورة ( عبس  ) في هذا الوقت الذي انتشر فيه ما يسمى بفقه التيسير الذي يتضمن في كثير من الأحيان تقديم المصلحة على النص ، والبحث عن الرخص والأقوال الضعيفة التي تتوافق مع ظروف الناس اليوم وترغبهم في الدين ( زعموا ) . ونحن نحسن الظن بكثير من أصحاب هذه الدعاوى ولكن الغاية لا تبرر الوسيلة .

لقد كان لهذا المنهج الفقهي آثار سلبية تمثلت في مظاهر منها : الاستخفاف بكثير من المحرمات والتقصير في الواجبات وعدم إنكار بعض المنكرات ولا سيما إذا وافقت هوى في النفس وضعفا في الدين والورع وأخطر من ذلك أنها ربما مهدت لتقبل الفكر الإرجائي الذي انبعث من جديد .

وهنا أؤكد على بعض المعالم المهمة التي لا تخفى على القارئ الكريم وهي :

1-أن هذه الشريعة المحمدية مبنية على اليسر والسماحة  ( وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ ) الحج :78   فليست بحاجة ألبته إلى من يزيدها يسرا وسهولة .

2-ينبغي أن يعرض دين الله كما نزل من عند الله ( وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا (29) الكهف  مع مراعاة التدرج في الدعوة .

3-كل مصلحة تعارض نصا من الكتاب أو السنة أو الاجماع فهي مصلحة ملغاة لا اعتبار لها وكل مصلحة متحققة لا تترك لأجل مصلحة متوهمة والشرع أدرى بمصالح العباد من العقل.

4-أن هذه الشريعة السمحة صالحة لكل زمان ومكان لا حرج فيها ولا عنت يستطيع المسلمون في هذا الزمن الالتزام بحدودها وإظهار شعائرها في أغلب البلدان .

5-من قواعد الشريعة المجمع عليها أن الضرورات تبيح المحظورات فإذا اضطر الإنسان لترك واجب أو فعل محرم جاز له ذلك ولكن الضرورة تقدر بقدرها وزمانها ومكانها ولا يترخص بها جميع الناس .

6-لم نر لهذا التساهل والترخص أثرا واضحا في دعوة غير المسلمين أو توبة بعض المذنبين بل ثبت أن الكفار وأهل الكبائر من المسلمين يزدرون من يداهن في دينه .

هذه وقفة سريعة حول هذه الآية الكريمة    . انتهى بتصرف  .                  

نعم كما ذكر الشيخ رحمه الله فليست المصلحة كما نظن نحن ونعتقد بل المصلحة الشرعية موزونة بميزان السماء ، يقول الأخ أحمد بوادي في مقاله " المصلحة الشرعية ، ضوابط أصولية ، أم نزوات وأهواه نفوس " نقلا من الشبكة العنكبوتية يقول :  فهذه بعض الأمثلة التي تدل على العمل بالمصلحة الشرعية مع الأخذ بالشروط التي ذكرناها عن أهل العلم ومناسبتها لها ، مع عدم الإخلال بأصول الشريعة الإسلامية وعدم مخالفتها للأدلة الشرعية إلا ما كان منها في حفظ أمر ضروري على حساب تحسيني ، وليس إهمال ضروري على حساب حاجي أو تحسيني ، وكون هذه المصالح حقيقية لا وهمية وغير مبنية على أصول فاسدة . انتهى بتصرف .

     والآن نأتي إلى ما ذكره من يرى جواز المشاركة لانه يرى ان المصالح قد فاقت المفاسد ، فهم يقولون كما قال أحدهم :( لعل الاخ خالد قد هاله ما وقع من انحرافات لبعض الدعاة الذين دخلوا المجال السياسي ومجالس الامة، وهذه نتألم منها جميعا، ولكن الانحراف في التطبيق وفي الاشخاص لا يعني ابدا تحريم المقاصد والوسائل الشريفة، فقد ينحرف العالم الديني بسبب المال او الوجاهة ولكننا لا نحرّم العلم الديني.
ثانيا: لم يقل أحد بأن المجالس والانتخابات هي الوسيلة الوحيدة لنشر الدين والاخلاق في المجتمع، بل هي وسيلة من الوسائل متى ما قام بها البعض سقطت عن الآخرين ولا شك ان ما ذكره الاخ خالد من اتباع منهج الرسول صلى الله عليه وسلم في الاختلاط بالناس وتوصيل الدعوة اليهم من اهم الامور كذلك، وما الذي يمنع من ان يتفرغ اناس لكل وسيلة من الوسائل لكي يحدث التكامل، بل ان النائب في البرلمان يستطيع ان يحقق اعظم الاحتكاك بالناس ونفعهم وكسب مودتهم مالا يستطيعه غيره.
ثالثا: لا شك ان المجالس النيابية من الولايات العامة التي تحقق التشريع للناس والرقابة على المجتمع من موقع سلطة وهي من اهم الوسائل لنشر الدين، وهذا يوسف عليه السلام قد طلب وشارك في حكومة كافرة، وكان وزيرا للمالية، ولم يمنعه ذلك من الدعوة الفردية، فكيف ونحن في بلد مسلم اهله محبون لله ولو جلس الصالحون في بيوتهم وتركوا الناس وشأنهم لتسلط عليهم من لا يخاف الله تعالى فيهم، وقد يشرع لهم في ايام ما يهدم جميع ما يبنيه الصالحون في اعوام.
وما طالبنا به في المقال كان فقط ان نعطي صوتنا لمن نراه الأكفأ والأصلح لنقطع الطريق على من هو أسوأ منه لكننا لا نمنع من أراد الدخول في المجالس لتحقيق تلك المصالح، او ليس ذلك هو عين ما استدل به الاخ خالد بقوله (إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم)رابعا: نحن لا نخالف الأخ خالد من أن الديموقراطية والانتخابات هي نتاج للفكر الغربي، ونحن لا ندعو إلى اعتناقها على حساب الشريعة الاسلامية وثوابت الامة بل ندعو إلى الاستفادة من الخير الذي فيها لتحقيق الخير الذي ننشده جميعا، وهل لو اعتزلنا هذا النظام سنكون بمنأى عن تشريعاته ونتائجه على مجتمعنا من خير أو شر؟!
خامسا: لا أدري لماذا يغض الاخ خالد النظر عن الخير الكثير الذي تحقق لمجتمعنا من دخول الدعاة إلى المجلس، حتى البنوك الاسلامية التي استدل بها قد كانت بعد فضل الله من تشريعات المجلس، وكذلك شركات التأمين الاسلامية وبيت الزكاة والجمعيات الخيرية، وتجريم الخمور واعدام تجار المخدرات وتحريم عقوق الوالدين وأسلمة القانون المدني، واقرار قانون الاحوال الشخصية على نهج اسلامي، وغيرها الكثير، فلماذا نمنع الخير عن الناس بحجة الخوف من بعض الانحرافات المتوقعة في تلك المجالس واتمنى ان يقرأ الاخ خالد ماكتبه شيخ الاسلام ابن تيمية في تولي الولايات العامة والسعي لتكثير الخير حتى وان وقع من الداعية بعض المخالفات التي لا يستطيع ردها.
سادسا: العلماء الكبار الذين اجازوا الدخول إلى المجالس والانتخابات والمشاركة فيها امثال الشيخ بن باز والشيخ بن عثيمين رحمهما الله لم يكونوا غافلين عن تلك الامور وفوائدها العظيمة على المسلمين التي ترجح مفاسدها، وغير صحيح ان الوضع قد تبدل وان المفاسد قد فاقت المصالح، واين هم اهل العلم المعتبرون الذين افتوا بان الوضع قد تبدل؟!
لقد شاهدنا كيف ساهم عزوف كثير من اهل الخير عن المشاركة في انتخابات 2009 كيف انقلبت موازين الانتخابات، فأرجو ان اكون قد اوضحت بعضا مما طرحه الاخ خالد، وان يكون سعينا جميعا نحو التكامل والتعاون لتحقيق غايتنا في ارضاء الله تعالى وتطبيق شرعه في مجتمعنا. انتهى نقلا من موقع جريدة الراي الكويتية الالكتروني  .

هذا أعظم ما يستدلون به في ترجيح مصلحة المشاركة في الديمقراطية والمجالس النيابية على المفاسد ، فأقول- بعد التوكل على الله والاستعانة به وحده لا شريك له- في الرد على ذلك وتبيان أن المفاسد قد فاقت تلك المصالح المظنونة :-

1-  مما ينبغي معرفته أنه ليس الخلاف في هل يوجد في الديمقراطية والمشاركة في المجالس النيابية بعض النفع أم لا ؟ حتى تأتي الإجابة بذكر بعض النفع الموجود ، بل الخلاف هو في المصالح والمفاسد أيهما أغلب ؟

يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في الفتاوى صفحة (11/623) :" والعمل اذا اشتمل على مصلحة ومفسدة فان الشارع حكيم ، فان غلبت مصلحته على مفسدته شرعه وإن غلبت مفسدته على مصلحته لم يشرعه بل نهى عنه كما قال تعالى : كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (216)  البقرة  وقال تعالى "  يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا " البقرة 219 ، ولهذا حرمهما الله تعالى بعد ذلك ، وهكذا ما يراه الناس من الأعمال مقربا إلى الله ولم يشرعه الله ورسوله فانه لابد أن يكون ضرره أعظم من نفعه وإلا فلو كان نفعه أعظم غالبا على ضرره لم يهمله الشارع فانه حكيم لا يهمل مصالح الدين ولا يفوت المؤمنين ما يقربهم إلى رب العالمين . انتهى بتصرف .

فالموضوع اذاً الذي نحن بصدده هو هل المشاركة في الديمقراطية والمجالس النيابية المصلحة والمنفعة تغلب المفسدة أم لا ؟ فمجال تعارض المصالح مع المفاسد وتعارض الخير مع الشر هو المجال الذي اختلط على بعض الناس ، وتفرق فيه  البعض الأخر ، وهو المجال الذي تميز فيه الناس ، يقول شيخ الاسلام ابن تيمية رحمه الله في فتاويه (  20-54) :" فهذا باب آخر يدخل فى سعة الدين ورفع الحرج الذي قد تختلف فيه الشرائع بخلاف الباب الأول فان جنسه مما لا يمكن اختلاف الشرائع فيه وان اختلفت فى أعيانه بل ذلك ثابت في العقل كما يقال ليس العاقل الذى يعلم الخير من الشر إنما العاقل الذى يعلم خير الخيرين وشر الشرين وينشد ... ان اللبيب اذا بدى من جسمه ... مرضان مختلفان داوى الأخطرا  " انتهى بتصرف .

 فانا أرى أن ما تحقق من بعض نفع فهو يسير وقليل إذا قُورن بالفساد الكبير الذي حصل على الإسلام والمسلمين ، فما تحقق من نفع كما ذكر الكاتب فهو: اما نفع يسير جعلوه كالطعم ليجروا به الدعاة الى الله ليشاركوهم في ديمقراطيتهم التي يدّعون فيعززون بذلك ملكهم ،  لأن ملكهم سيهتز وسيفقد المصداقية عندما تكون نسبة المشاركة الشعبية ضئيلة بخروج الاسلاميين (ان صحت التسمية) فكان لابد من وجود بعض النفع (الذي لايضرهم) حتى يغروا به عباد الله فيجرونهم للمشاركة ،   أو نفع كان ببركة الدعوة الإسلامية التي كانت موجودة بقوة ( قبل ضعفها بسبب المشاركة بالديمقراطية والمجالس النيابية ) فالمصارف الإسلامية (كما هو عندنا نحن في الكويت) الكل يعلم أن أول مصرف إسلامي كان قد أُنشأ في فترة تعطيل الحياة البرلمانية  في الكويت في أواخر فترة السبعينات الميلادية أي بقرار من صاحب القرار في تلك الفترة ولم يتحقق بسبب دخول الدعاة إلى المجالس النيابية كما يقررون ذلك ويدلسون به على الناس ، حتى المصارف الإسلامية الأخرى التي أنشئت في قترة وجود الحياة البرلمانية فان سبب نشأتها كان سبباً اقتصادياً بحتاً كما يعرف ذلك من تتبع الأوضاع الاقتصادية في البلد ولم يكن لدخول الدعاة إلى المجالس النيابية إلا بعض القرارات التنظيمية التي كانت ممكن أن تكون من صاحب القرار نفسه رعاية منه للوضع الاقتصادي للبلد من غير دخول الدعاة إلى المجالس النيابية ، ولو فرض أن صاحب القرار لم يقم بواجبه فهنالك وسائل شرعية أخرى شرعها الله من الزيارة والنصح والإرشاد وغيرها ، فكل ما ذكر من قرارات وقوانين كانت ممكن أن تحصل من غير دخول الدعاة إلى المجالس النيابية ، فلماذا نعتقد أن ذلك لا يكون إلا بالمطالبة والمنازعة والمعارضة في المجالس النيابية ، فهذا الاعتقاد هو الذي جعل صاحب القرار يعارض الدعاة ويعاديهم وينظر إليهم بنظر الريبة والشك ويتحالف مع الاخرين ضدهم، وبدأ الدعاة في المجالس النيابية يكونون جبهة معارضة مما أظهرهم بمظهر من يريد السلطة والتسلط على الناس مما أضعف تأثيرهم لدى عامة الناس فأدى إلى ضعف الدعوة الإسلامية عموماً ، ويدل على ذلك الانتخابات الأخيرة في الكويت حيث أظهرت النتائج تقهقر الدعاة إلى المراكز الأخيرة وسقوط آخرين منهم وفوز أربع نسوة لأول مرة في تاريخ الكويت وارتفاع عدد مقاعد الشيعة إلى تسعة مقاعد  ، وليس الأمر كما يشاع أن تقهقر الدعاة كان بسبب إحجام كثير من الخيرين عن الانتخاب لان نسبة المشاركة في الانتخابات هي نفسها تقريباً في الانتخابات السابقة ، ولكن هناك من يريد أن يلقي اللوم على الآخرين بسبب خسارته ولغة الأرقام أكبر شاهد على ذلك . 

 فكان لابد من وقفة ومراجعة لمعرفة أن الخلل كان في أصل الفكرة- فكرة المشاركة- لأنها تخالف الهدي النبوي في الإصلاح والدعوة والتغيير ، وكان مطلوبا من المسلم الثبات على دينه وشرع ربه وعدم مشاركة الآخرين في مذاهبهم وأفكارهم طلبا لتغيير حال الناس وإصلاح الأمة ، وعدم استعجال الأمور فان نصر الله يحتاج إلى الصبر والتؤدة ، فعندما وعد الله تعالى بني إسرائيل بالنصر على فرعون  كان هذا النصر بعد سنوات طويلة كما في سورة القصص .  والله سبحانه لم يكلفنا - خصوصا في وقت الاستضعاف -  فوق ما نطيق وان نتكلف مالم يأمرنا به ،  فمن سمات عهد الاستضعاف المكي ثبات النبي صلى الله عليه وسلم وصحابته الكرام على الحق والتمسك والصدع به وإعلان البراءة من الباطل وأهله ، حتى منّ الله على نبيه بالنصر المبين فحكم وساد الجزيرة العربية ، وأغلب الدعاة المعاصرين يحكمون على حالنا أنه زمن استضعاف فما بالهم إذن يتجشمون الصعاب ولمّا يصلب عودهم ؟  وذا قيل للبعض جاهد مع من يجاهد قال نحن نعيش زمن الاستضعاف فلم يحن وقت الجهاد بعد ، وإذا قيل له اثبت على الحق فأنت في زمن الاستضعاف كما كان أوائل هذه الأمة يثبتون ويصبرون ويخالفون الباطل وأهله قال : لا ، لابد من المشاركة في الحياة البرلمانية .

 وعندما تكلف البعض ما لم يؤمروا به ابتلاهم الله بما كانوا يكسبون ، فهم الآن بعد المشاركة بالمجالس النيابية ناصبوا الحكام والناس العداء ، فبدأت الأصوات ترتفع وتنادي بمحاربة الإسلام والدعاة ، فكانت الحرب ..، وهم في غنى عنها فلذلك هم الآن لا يستطيعون ترك الساحة  بما جنوا على أنفسهم ، ولو ساروا على نهج النبي صلى الله عليه وسلم في الإصلاح والتغيير والدعوة والتربية  لوجدوا العون من الله تعالى ولم يوكلوا الى أنفسهم  ، فالناس لا يزالون على الفطرة ، وكانت الدعوة تسير بخير بين الناس حتى نافسهم  الدعاة  بالمشاركة في المجالس النيابية فكانت الحرب .

فتحققت بسبب مشاركة الدعاة في الديمقراطية والمجالس النيابية مفاسد عظيمة فاقت المصالح المرجوة منها على سبيل المثال :-

1-   ضعف الدعوة الإسلامية عموماً في التأثير في واقع حياة الناس بسبب أولا اهتزاز صورة الدعاة بسبب مشاركتهم في الانتخابات والمجالس النيابية التي أظهرتهم بأعين الكثير بصورة طلاب سلطة وتسلط على الناس ، وثانياً بسبب انشغال الدعاة والمجالس الحركية للدعوة الإسلامية بالانتخابات ومشاكلها وتحالفاتها وغيرها ، وليس صحيحاً إن الدعوة الإسلامية تستطيع أن تحقق التكامل بين الوسائل المتاحة مثل وسيلة المشاركة بالانتخابات والمجالس النيابية والوسائل الأخرى ، لأن الواقع يشهد على عكس ذلك ، فالواقع يشهد أن الجماعات الإسلامية ضاعفت جهدها في العمل السياسي والبرلماني على حساب العمل الدعوي والتربوي والتعليمي مما أبعدها عن قلوب الناس وعن تكوين قواعد جديدة للعمل الإسلامي ، وقد أظهرت النتائج الأخيرة في الكويت صحة ذلك ، فعندما شارك الجيل الذي ولد مع انشغال الجماعات الإسلامية بالمشاركة في الانتخابات والمجالس البرلمانية     (وهو جيل الثمانينات الميلادية ) فإذا بهذا الجيل الجديد في الغالب ذو توجهات وميول تحررية بعيدة عن الدين وأهله ، إذا كان هناك من سبب رئيس فهو بُعد الدعاة عن واقع التأثير لدى الناس عموماً ، فكانت النتيجة غير المتوقعة في الانتخابات الأخيرة ، فلم تستطع الجماعات الاسلامية احداث هذا التكامل بين وسيلة المشاركة في المجالس النيابية والوسائل الدعوية الاخرى كما يزعمون .

 2-  ضياع الاعتقاد الصحيح في مسألة الديمقراطية لدى عامة الناس حتى عند بعض شباب الدعوة الإسلامية من جيل الثمانينات الميلادية ، وحتى عند بعض كبار رجالات الدولة ، فيصرح مسئول كبير في الدولة أنه يؤمن بالديمقراطية ، ولولا معرفتي الشخصية لهذا الرجل وأنه من المصلّين ويقصد بتصريحه ذلك أنه لا يكبت الحريات لقلت انه تفوه بكلمة عظيمة تخالف المعتقد الديني الصحيح ، واعتبارهم المشاركة بالانتخابات هو عرس ديمقراطي يفرحون به ويبتهجون ، وكل هذا التخبط والضياع لمفاهيم الدين الأساسية مَن المسئول عنه ؟ فإذا كان الجاهل يجهل والعالم يشارك في الديمقراطية والمجالس النيابية من غير توضيح لحقيقة الأمر ، فمتى تتضح الحقيقة لدى عامة الناس ؟ فقد أخذ الله على أهل العلم الميثاق بأن يبينوا العلم ولا يكتموه وذم كاتميه فقال تعالى :" وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ (187) آل عمران ، قال شيخ الاسلام ابن تيمية في فتاويه (28-187): فالمرصدون للعلم عليهم للأمة حفظ علم الدين وتبليغه فاذا لم يبلغوهم علم الدين أو ضيعوا حفظه كان ذلك من أعظم الظلم للمسلمين ولهذا قال تعالى : إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ (159) البقرة ، فان ضرر كتمانهم تعدى الى البهائم وغيرها فلعنهم اللاعنون حتى البهائم . انتهى بتصرف.

ومن مات منهم على هذا الخلط واللبس والجهل فمسئولية مَن عند رب العالمين ؟ بل العجيب في الأمر أن بعض السياسيين من عامة الناس يصرح تصريحاً صحفياً انه لن يتحاور مع بعض الجماعات الإسلامية لأنها لا تؤمن بالديمقراطية !! سبحان الله انظر أيها القارئ كيف تختلط الموازين وتنتكس عندما يجهل الجاهل والعالم يشاركه في جهله من غير تبيان أو نكير كيف يطالبوننا بالإيمان بما أمرنا الله بالكفر به .

وهذا يدل على الجهل المنتشر لدى عامة الناس بحقيقة ما أمر الله به ورضيه لعباده من أصول التوحيد والإسلام ، وعدم معرفة ما ينافيه ويناقضه أو يضاد الكمال والتمام من الاستسلام والانقياد  لرب العالمين .

وهذا بحد ذاته فساد كبير ان كان هناك من سبب فأولى  الأسباب هو مشاركة الدعاة للناس في الانتخابات والمجالس النيابية وسكوتهم عن تبيان الحق ، فكيف ينتقدون شيئاً هم مشاركون فيه ، يقول الشيخ محمد بن عبد اللطيف رحمه الله في الدرر السنية في الكتب النجدية ص (14/324 ): قال تعالى: {لَوْلا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَار} ُ [سورة المائدة آية : 63].قال ابن النحاس: دلت الآية على أن تارك الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، كمرتكبه، والآية توبيخ للعلماء في ترك الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، كما قاله القرطبي: وتالله إنهم لأهل لكل توبيخ، فأنى يصلح الناس والعلماء فاسدون؟ أم كيف تعظمون المعصية في قلوب الجاهلين، والعلماء بأفعالهم وأقوالهم لم ينهوهم عنها؟ أم كيف يرغب في الطاعة، والعلماء لا يأتونها؟ أم كيف يتركون البدع والعلماء يرونها فلا ينكرونها؟ إلى أن قال:

وأما في زماننا هذا؛ فقد قيد الطمع ألسن العلماء فسكتوا، إذ لم تساعد أقوالهم أفعالهم، ولو صدقوا الله لكان خيرا لهم، فإذا نظرنا إلى فساد الرعية، وجدنا سببه فساد الملوك؛ وإذا نظرنا إلى فساد الملوك وجدنا سببه فساد العلماء والصالحين؛ وإذا نظرنا إلى فساد العلماء والصالحين، وجدنا سببه ما استولى عليهم من حب المال والجاه، وانتشار الصيت ونفاذ الكلمة، ومداهنة المخلوقين، وفساد النيات والأقوال والأفعال. انتهى.بتصرف .

فليس ضياع الاعتقاد الصحيح في مسألة الديمقراطية إلا مثالاً على ضياع حقائق ومفاهيم كثيرة من حقائق الدين فان كان من سبب فأول تلك الأسباب هو بُعد الدعاة عن واقع التأثير بسبب انشغال النخبة منهم ومجالس الحركات الإسلامية بالانتخابات والمجالس النيابية وصراعاتها .

لذا أنا أرى أن فساد المشاركة في الانتخابات والمجالس البرلمانية قد فاق المصالح على ضوء ما أفهمه من كلام ربنا تعالى وسنة نبينا صلى الله عليه وسلم وفهم سلفنا الصالح وعلى وفق ما ذكره علماؤنا من قواعد وأصول في المصالح الشرعية ، لذا أدعوا إلى رفض المشاركة ولا يغرنا ما في الديمقراطية أو ما في المشاركة في البرلمانات والانتخابات من خير يسير فهو مغمور بما فيه من شر كثير ،و شريعة ربنا تكفل لنا تحقيق ما نأمله من خير ،  فسبيل النبي صلى الله عليه وسلم فيه  الخير والصلاح وان كان طويلا وشاقاً فهذا حال الإيمان والعمل الصالح فالجنة حفت بالمكارة والنار حفت بالشهوات ، ولا يغرنا بعد ذلك زخرف القول ، فالخير كل الخير في إتباع من سلف والشر كل الشر في ابتداع من خلف .

 ولعل وقوفنا جميعا في رفض الانتخابات ورفض المشاركة بالمجالس النيابية لعله يكون الخطوة الأولى في الاتجاه الصحيح نحو الإصلاح  ، وحجر الأساس في بناء حياة الناس على وفق تعاليم الشريعة الإسلامية التي ننادي جميعا بتطبيقها في حياة الناس .

وان كان هناك أدنى شك في ذلك ( في إن المفاسد قد فاقت المصالح ) فلندعُ جميعاً – ان كنا صادقين - إلى مؤتمر يُدعى إليه علماؤنا الربانيون الذين يقولون الحق ولا يخافون في الله لومة لائم ، ليتم مناقشة هذه المسألة الحساسة وتبيان حكم الله في الديمقراطية أولا بوضوح بلا لبس ، ثم بعد ذلك تبيين هل هناك من حاجة أو ضرورة تستلزم المشاركة ؟ وهل  مصلحة المشاركة تفوق المفسدة فنُقدم أم الأخرى فنُحجم ؟! ولتتبنى احدى الجماعات أو الأحزاب الإسلامية المنتشرة في بلدان المسلمين هذا المؤتمر الفيصل ، أو يُرفع الأمر إلى إدارات ومراكز الفتوى لتقوم بدورها في تنوير الأمة في هذه المعضلة ، فان كان علماؤنا في السابق ممن أفتوا بجواز المشاركة في الانتخابات والمجالس النيابية قد قاموا بواجبهم في وقتهم ، فلا بد أن يُعرض الأمر من جديد على أهل الفتوى خصوصاً وقد مضى على الفتوى بالجواز سنوات طويلة ( كان آخر من أفتى بالجواز وفاتاً هو الشيخ محمد بن صالح العثيمين رحمه الله توفي عام 1421 هـ ) وليس العصمة لأحد بعد النبي عليه السلام فكل يخطيء ويصيب وكل يؤخذ بقوله ويرد الا النبي عليه السلام ، وعند التنازع لابد من رد الامر الى الله والرسول كما قال تعالى :فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا (59)النساء .

 وأنا أرى أن الأوضاع والأحوال الان قد تبدلت وتغيرت خصوصاً بعد حادثة تفجيرات نيويورك عام 1422هـ  وإعلان الولايات المتحدة  الحرب على الإسلام والإرهاب . فحتى لا تضطرب الآراء لا بد من رفع الأمر إلى علمائنا ليقولوا كلمتهم .

          وأما قولهم : ولو جلس الصالحون في بيوتهم وتركوا الناس وشأنهم لتسلط عليهم من لا يخاف الله تعالى فيهم، وقد يشرع لهم في ايام ما يهدم جميع ما يبنيه الصالحون في اعوام.
فأقول أنا لا أرفض الذهاب إلى صناديق الاقتراع وبالمقابل أدعو إلى الخلود إلى الارض أو الى النوم  بل أدعو إلى التحرك كما تحرك النبي صلى الله عليه وسلم والمصلحون من هذه الأمة في دعوة الناس إلى الخير والى الرجوع إلى دينهم وتحكيمه في معاشهم والانتشار بين الناس لنصحهم  وتعليمهم شريعة ربهم التي بها سعادتهم وفلاحهم في الدنيا والآخرة ، فليس الأمر ينحصر بين إما ترك الساحة للمفسدين أو المشاركة بالانتخابات بل هناك أمر آخر شرعي شرعه الله لرسوله صلى الله عليه وسلم ولأمته من بعده وهو الدعوة إلى الخير والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كما قال الله تعالى في سورة آل عمران : وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (104)  وتعود دعوتنا كما كانت في سابق عهدها وأفضل ، ولو نبذل في دعوتنا من الجهد عشر ما نبذله في الانتخابات لكان خير كثير باذن الله تعالى . فلننتبه جيدا لما يثار من شبهات حول هذه المسألة ،  فهذه الأوهام وهي قولهم أن عدم المشاركة سبيل الى تسلط المفسدين على حياة الناس  لا تنطلي على مسلم يقرأ كتاب ربه وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم أن المستقبل لهذا الدين وأن الخير في هذه الأمة باق الى يوم القيامة كما  قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « مَثَلُ أُمَّتِى مَثَلُ الْمَطَرِ لاَ يُدْرَى أَوَّلُهُ خَيْرٌ أَمْ آخِرُهُ » رواه الترمذي وحسنه الالباني ، وأنه إذا جاء الحق زهق الباطل إن الباطل كان زهوقا كما قال الله تعالى في سورة الإسراء ، فلا ندع  هذه الأوهام تنتشر بين عوام المسلمين من حيث لا نشعر  بل علينا أن نربطهم بالحقائق التي ذكرها الله تعالى في كتابه العزيز وفي سنة نبيه صلى الله عليه وسلم ونربطهم دائما بعقيدة المسلمين بأن النصر لهذا الدين ، ونقوي عندهم الثقة بالله تعالى والصدق بوعده ،فلا نؤتى من قبل انفسنا بضعف يقيننا بالله وبوعده ، فمن ظن أن سلوك سبيل النبي  صلى الله عليه وسلم لايكفي لكان دين الرسول ناقصا محتاجا الى تتمة ، كما مرّ بنا  كلام شيخ الاسلام ابن تيمية حيث قال :"إذا عرف هذا فمعلوم أنما يهدى الله به الضالين ويرشد به الغاوين ويتوب به على العاصين لابد أن يكون فيما بعث الله به رسوله من الكتاب والسنة وإلا فانه لو كان ما بعث الله به الرسول لا يكفى فى ذلك لكان دين الرسول ناقصا محتاجا تتمة " .

وسأضرب مثالا يوضح كيف يستطيع المصلحون من أهل الدعوة الاسلامية منع فساد المفسدين من غير مشاركة في الديمقراطية والمجالس النيابية فأقول : لو أن حكومة من حكومات بعض الدول الإسلامية أرادت تشريع قانون فيه منكر عظيم كإباحة الخمر مثلا ، فكيف يكون منع هذا التشريع من غير مشاركة في المجالس النيابية ؟ فأقول بالوسائل الشرعية التي شرعها الله لعباده الصالحين وهي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، والنصح والإرشاد والتذكير بالله والتخويف من عقابه وأن هذا فيه مضاهاة لشرع الله ونكون صريحين في ذلك بأن هذا كفر بالله العظيم ولانخاف في الله لومة لائم لأن فيه معاندة لشرع الله وإباحة لما علم تحريمه من الدين بالضرورة ولأنه من نواقض الايمان (ولا يخفى أن هناك فرق بين الكفر والكافر )، ونقوم بعمل زيارات لأهل القرار والشأن في ذلك ولأصحاب النفوذ والوجهاء في البلد ، وإذا كانت الدعوة الاسلامية حية وقوية بين الناس فإن الله سيقذف الرعب والخوف في قلوب المفسدين  وسينصر عباده ويمنع هذا الشر عنهم ، واما إذا تكاسلنا وتقاعسنا ورضينا بالحياة الدنيا وخفنا على مصالحنا الشخصية فلا نلومنّ عند تسلط المفسدين إلا انفسنا .

    وإما استدلالهم بمشاركة النبي يوسف عليه السلام في حكومة كافرة ، فهذا استدلال في غير محله ، لان مشاركة النبي يوسف عليه السلام في حكومة العزيز الكافرة استدل بها أهل العلم على جواز مثل هذا الفعل عند رجحان المصلحة على المفسدة كما بين شيخ الإسلام ابن تيمية في فتاويه( 20-48) :  فصل جامع فى تعارض الحسنات أو السيئات أو هما جميعا إذا اجتمعا ولم يمكن التفريق بينهما بل الممكن إما فعلهما جميعا وإما تركهما جميعا وقد كتبت ما يشبه هذا فى قاعدة الامارة والخلافة وفى أن الشريعة جاءت بتحصيل المصالح وتكميلها وتعطيل المفاسد وتقليلها وأنها ترجح خير الخيرين وشر الشرين وتحصيل أعظم المصلحتين بتفويت أدناهما وتدفع أعظم المفسدتين باحتمال أدناهما ...ثم قال : ونقول إذا ثبت أن الحسنات لها منافع وإن كانت واجبة كان فى تركها مضار والسيئات فيها مضار وفى المكروه بعض حسنات فالتعارض إما بين حسنتين لا يمكن الجمع بينهما فتقدم أحسنهما بتفويت المرجوح وإما بين سيئتين لا يمكن الخلو منهما فيدفع اسوأهما باحتمال أدناهما واما بين حسنة وسيئة لا يمكن التفريق بينهما بل فعل الحسنه مستلزم لوقوع السيئة وترك السيئة مستلزم لترك الحسنة فيرجح الأرجح من منفعة الحسنة ومضرة السيئة ... ثم قال : ومن هذا الباب تولي يوسف الصديق على خزائن الأرض لملك مصر بل ومسألته أن يجعله على خزائن الارض وكان هو وقومه كفارا كما قال تعالى :" وَلَقَدْ جَاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِمَّا جَاءَكُمْ بِهِ " غافر34 ، وقال تعالى عنه :" يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ (39) مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآَبَاؤُكُمْ " يوسف ، ومعلوم أنه مع كفرهم لابد أن يكون لهم عادة وسنة فى قبض الاموال وصرفها على حاشية الملك وأهل بيته وجنده ورعيته ولا تكون تلك جارية على سنة الأنبياء وعدلهم ولم يكون يوسف يمكنه أن يفعل كل ما يريد وهو ما يراه من دين الله فان القوم لم يستجيبوا له لكن فعل الممكن من العدل والاحسان ونال بالسلطان من اكرام المؤمنين من أهل بيته مالم يكن يمكن أن يناله بدون ذلك وهذا كله داخل فى قوله فاتقوا الله ما استطعتم ،  فاذا ازدحم واجبان لا يمكن جمعهما فقدم أوكدهما لم يكن الآخر فى هذه الحال واجبا ولم يكن تاركه لأجل فعل الأوكد تارك واجب فى الحقيقة ، وكذلك اذا اجمتع محرمان لا يمكن ترك أعظمهما الا بفعل أدناهما ... الى آخر كلامه رحمه الله (بتصرف) . فاستدل رحمه الله بتولي النبي يوسف عليه السلام على خزائن الارض على جواز مثل ذلك عند رجحان المصلحة على المفسدة ، ونحن مسألتنا في هذا البحث هي هل مصلحة المشاركة قي الانتخابات والمجالس النيابية أرجح من المفسدة ؟ فيجوز لنا المشاركة استدلالا بفعل النبي يوسف عليه السلام ، أم المفسدة أرجح فلا يجوز لنا المشاركة ولا يجوز لنا الاستدلال بفعل النبي يوسف  عليه السلام ،لأن فعل النبي يوسف  حجة لمن رجحت مصلحة مشاركته على المفسدة ، وهو في نفس الوقت حجة على من رجحت مفسدة مشاركته على المصلحة ، فلا يجوز أن نجعل فعل النبي يوسف سلماً لكل من أراد أن يصعد عليه ليصحح فعله ، بل علينا أن ننزل الادلة الشرعية منازلها الصحيحة وأن نفهم كلام شيخ الاسلام وسلفنا الصالح فهما صحيحا ، فليس الشأن هو استعراض للنصوص بقدرما هو فهم للنص الفهم الصحيح وانزاله على الواقع المعني .

  

     ثم هناك مفسدة أخرى أذكر بها من شارك في الانتخابات والمجالس النيابية ، وهي أن كل قانون سيتخذ من قبل تلك المجالس النيابية سيكون له صفة الشرعية القانونية والنفوذ حتى لو كان فيه مخالفة لشرع الله ، ولا يجوز للدعاة إلى الله مخالفته أو رفضه لأنهم ملزمون به لكونهم مشاركين باللعبة الديمقراطية فيلزمهم ما يلزم الناس الآخرين ، وأما من لم يشارك لا يلزمه أي قانون وضعي يخالف شرع الله ، ولذلك نجد أن المعارضة في دول العالم تحرص على عدم المشاركة في الانتخابات حتى لا تلزم بنتائجها ، وبالمقابل تحرص الحكومات على رفع نسبة المشاركة في الانتخابات لتكون القرارات والقوانين لها القوة في النفوذ لان غالبية الشعب شارك في التصويت عليها .

ومثال على ذلك فان الأحزاب الإسلامية السنية في العراق التي شاركت في الانتخابات والمجالس النيابية رُفض احتجاجها على الاتفاقية الأمنية مع الولايات المتحدة الأمريكية بحجة أنها أُقرت بتصويت ديمقراطي في المجلس النيابي ( وان كان الكل يعلم كيف كانت العملية الانتخابية وما حصل فيها من تكتيك لتكون الغالبية في المجلس النيابي للكتل الشيعية ) لذا من شارك في هذه اللعبة أُلجم ولم يستطع أن يفعل شيئاً ، وأما من لم يكن مشاركاً لم يكن ملزماً بها ، ورفضه هذا أضعف الاتفاقية نفسها وان كانت قد أقرت وعمل بها . فهذا المفهوم فيه رد على قولهم السابق : وهل لو اعتزلنا هذا النظام سنكون بمنأى عن تشريعاته ونتائجه على مجتمعنا من خير أو شر ، فعلى الأقل نحن لم نكن مشاركين في إصدار ما يخالف شرع الله  ولا يلزمنا وان فرض علينا فرضاً من قبل صاحب القرار فهو ضعيف بصفته القانونية لأنه لم يشارك بإقراره غالبية الشعب ( هذا إذا كان هناك إحجام عن المشاركة ) وحجتنا قول النبي صلى الله عليه وسلم ، فعَنْ أُمِّ سَلَمَةَ رضي اله عنها أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ « سَتَكُونُ أُمَرَاءُ فَتَعْرِفُونَ وَتُنْكِرُونَ فَمَنْ عَرَفَ بَرِئَ وَمَنْ أَنْكَرَ سَلِمَ وَلَكِنْ مَنْ رَضِىَ وَتَابَعَ ». قَالُوا أَفَلاَ نُقَاتِلُهُمْ قَالَ « لاَ مَا صَلَّوْا ». رواه مسلم .

     وأخيرا أرجو من الله أن أكون قد وُفقت في توضيح هذه المسألة الحساسة أو على الأقل شاركت في تسليط الضوء عليها ليحذر من حذر عن بينة ويحيى من حي عن بينة ، ولمن أراد الاطلاع على مقالاتي السابقة التي تتكلم عن نفس الموضوع فهي كالتالي :

1-  بين تجربة المصارف الإسلامية وتجربة المشاركة في المجالس النيابية : موقع شبكة مشكاة الإسلامية : مقالات عقائدية تصحيح مفاهيم

2-     حتى لا تنتخب رغماً عن أنفك : موقع المسلم

3-  الخطأ الفادح ( وهو يتكلم عن خطأ سلوك مسلك أسلمة القوانين لتطبيق الشريعة الإسلامية ) : مجلة الفرقان عدد 493 – 6/2008

والله من وراء القصد

 ملاحظتان :

1-              جميع الترقيمات والنقولات موافقة لترقيم وعرض المكتبة الشاملة غفرالله لصاحبها .

2-              جميع المنقول بتصرف فهو بتصرف يسير جدا يكاد يوافق الاصل .

 

خالد بن صالح الغيص

 الكويت 1/7/1430

   [email protected]